في الشوارع الكبيرة والأزقة الضيقة، وأمام أبواب المساجد ومواقف السيارات، وفي الحدائق العمومية والمقاهي والأسواق، وفي المحطات الطرقية والمطاعم، وفي حافلات النقل الحضري والعمومي وأمام الأبناك، وفي مداخل الحمامات وأمام أبواب الصيدليات، وفي الملاعب الرياضية ودور السينما، بل وحتى في أبواب المقابر، يستوقفك متسولون من مختلف الأجناس والفئات العمرية، كل يختار طريقته في التسول، فبعضهم يلجأ إلى الدعاء وقراءة القرآن، والبعض يتخذ القصة المؤثرة وسيلة لكسب دريهمات، في حين تلجأ فئة إلى إظهار أماكن إصابتها بمرض أو ورقة شراء الأدوية التي عجزت عن توفير ثمنها، فيما تلجأ فئة أخرى إلى التسول بالكتابة، وذلك بتوزيع أوراق على ركاب الحافلات تحكي الوضع الاجتماعي الضعيف لاستعطاف الناس.. وهكذا إلى درجة يحار فيها الشخص في التمييز بين المتسول الصادق والمتحايل..
والذي لا يختلف فيه اثنان أن التسول ظاهرة اجتماعية تستدعي الوقوف الحازم للحد من تجلياتها وانعكاساتها.
التسول من الزاوية الاجتماعية
ذكرت الأستاذة حياة بوفراشن ـ باحثة في الخدمة الاجتماعية بالمعهد الملكي لتكوين الأطر بالرباط وورئيسة المنظمة المغربية لإنصاف الاسرة: إن الباحثين الاجتماعيين قسموا التسول إلى نوعين:
*التسول الاضطراري: ويتعلق بالشخص الذي اضطرته الظروف المعيشية إلى مد يده.
*التسول الاحترافي: ويتعلق بذلك العنصر الذي وجد في مد يده طريقة سهلة للكسب. وهذا الصنف من المتسولين يجب ردعهم ومحاربتهم.
وفي ما يخص أسباب التسول يرى الأستاذ ياسين الإبراهيمي ممثل العصبة المغربية لحماية الطفولة من جانبه أن جل الأطفال المتسولين هم ضحايا الطلاق ويعانون من التفكك الأسري. وأشار إلى أن العصبة أجرت قبل سنتين بحثا ميدانيا في موضوع التسول مستعينة بباحثات اجتماعيات خضعن لتكوين قبل مباشرة أعمالهن في مدن الرباط وسلا وتمارة تؤكد علاقة التسول بالتفكك الأسري.
دراسة حول التسول تفيد أن 500 ألف مغربي يتسولون
بالرغم من أن تقديم إحصائيات عن التسول يبدو من الصعب بمكان، نظرا لعدم استقرار المتسول في مكان قار ،فقد كشفت دراسة حديثة أجرتها الرابطة المغربية لحماية الطفولة أن نحو 500 ألف شخص من أصل 30 مليون شخص يمتهنون حرفة التسول في المغرب بصفة دائمة أو مؤقتة بسبب الفقر.
وتشير إحصائيات نشرتها المندوبية السامية للتخطيط (وهي مؤسسة رسمية مغربية) أن أكثر من 16 مليون مغربي يعيشون تحت خط الفقر بأقل من دولارين في اليوم، ويتركز أغلب فقراء المغرب في المناطق الريفية من البلاد، غير أن ارتفاع الهجرة نحو المدن بسبب تردي الأحوال المعيشية والجفاف جعل المدن بدورها تعيش كثافة كبيرة في عدد الفقراء والمشردين.
الطلاق والإهمال والمرض كابوس ثلاثي الأبعاد للمتسولين
يمثل الطلاق والإهمال والمرض كابوسا ثلاثي الأبعاد يجثم على الأفراد المتسولين فقد أوضحت الدراسة السالف ذكرها أن الأسباب الرئيسة التي تدفع هؤلاء إلى التسول تتمثل في المشاكل الاجتماعية المترتبة على الطلاق أو تخلي الوالدين والإهمال أو غياب أو وفاة الوالدين وسوء المعاملة والتحرش الجنسي بالإضافة إلى عوامل ثقافية تتمثل في التعود على التسول أو الانتماء إلى عائلة تحترف التسول. ويشكل الذكور منهم 56 في المئة والإناث 44 في المئة تربطهم بالمرافقين في الغالب علاقة عائلية وأغلبهم من نساء غير متعلمات... وقال 15 في المئة من المرافقين إنهم يستأجرون الأطفال لمزاولة نشاطهم مقابل ما يتراوح بين 50 درهما و100 درهم في الأسبوع.
وأفادت الدراسة أن ثلثي الأطفال يعانون من أمراض مزمنة كالسكري وضغط الدم والحساسية والربو وداء السل وفقر الدم وأن 27 في المئة من بين المصابين قاموا باستشارة طبية وأن الخمس منهم فقط تمكنوا من متابعة العلاج.
وقال 77.1 في المئة من الأطفال الذي شملهم البحث إن التسول يساعد على امتلاك النقود واعترف 4.10 في المئة بأن التسول يولد لديهم شعورا بالكآبة بينما قال 8.7 في المئة إنهم يشعرون بالتعب مقابل 2.6 في المئة قالوا إنه يشعرهم بالابتهاج.
وأضافت الدراسة أن ثلثي الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 11 و12 سنة ولم يسبق لنسبة 25 في المئة منهم الالتحاق بالمدرسة.
التسول... أشكال وألوان
لا يمكن للمرء في المغرب أن ينكر وجود التسول فهو يطارده أينما حل وارتحل، فالمحطات الطرقية لا تكاد تخلو من المتسولين، والقاصد عمله عبر استعمال حافلات النقل الحضري يرى في كل يوم شكلا من أشكال التسول، وحتى من يملك سيارة لا ينجو من تعرض المتسولين طريقه سواء في الشوارع أو في مواقف السيارات وفي الأسواق.
وتشكل المساجد أمكنة مختارة لفئة المتسولين ومثلها أبواب المقابر وهلم جرا.. والمتأمل جيدا في حال المتسولين بالمغرب سيكتشف أنهم مبدعون في اشكال التسول، فقد نمت أشكال من التسول يصعب أن تخطر على البال، ولم يعد التسول ذلك الملجأ الذي تأوي إليه فئات غلبت على أمرها و''قهرها الزمان'' ولم تجد بدا من أن تبيع ماء وجهها مقابل دريهمات قليلة، بل أصبحت للتسول بالمغرب مدارسه ومناهجه واتجاهاته وتياراته، فهذا يحمل شهادة طبية لمرض وتجده دائما يدعي الحاجة إلى الدواء وهو في الحقيقة متحايل، وهذا يدعي أنه عابر سبيل ولا ينقصه إلا دريهمات ليتم ثمن تذكرة سفره.
وهذه لبست ثياب الحداد على موت الزوج السنة كلها عوض أربعة أشهر وعشرة أيام ومثلها كثيرات، ومنهن من يكترين أطفالا مقابل أجرة يومية، فتجد مثلا إحداهن محاطة بأربعة أو خمسة أطفال وتقول إن زوجها مات وترك لها اليتامى.
وتلجأ بعض الفتيات في سن 15 أو 16 سنة على توزيع أوراق على ركاب الحافلات متضمنة لحالة اسرتها، إما أبوها مريض وأمها ميتة وهي كبرى إخوانها، أو ان أباها توفي أو غادر البيت وتركها وإخوانها رفقة أمها المريضة ولا يجدون ما يغنيهم عن الجوع أو البرد أو........
اختلط الأمر على المرء هل يصدق المتسولين أو لا يصدقهم فإن صدقهم جميعا اعتبر مغفلا، أو كذبهم جميعا اعتبر ظالما في حق الصادقين منهم، وإن أراد التمييز بينهم فذلك من الصعب بمكان. وهو الأمر الذي يجعل البعض يجتهد قدر الإمكان في تحري صدق المتسول قبل أن يعطيه صدقة، أما البعض الآخر فيلجأ إلى الجمعيات الخيرية لأنها تعتمد في تحديد المحتاجين على تحريات ميدانية.
كيف عالج الإسلام مشكلة التسول؟
قال رسول الله (ص):''اليد العليا خير من اليد السفلى''، واليد العليا هي اليد المنفقة، وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة وحرمها على آله، وهذا توجيه قوي للمسلمين على أن يأكلوا من عرق جبينهم، أي مما يكسبون، وقال:''ما أكل امرؤ طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يعمل بيده''.
وأكد الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي لشبكة إسلام أون لاين أن الإسلام يغرس في نفس المسلم كراهة السؤال للناس، تربية له على علو الهمة وعزة النفس، والترفع عن الدنايا، وأن رسول الإسلام ليضع ذلك في صف المبادئ التي يبايع عليها صحابته، ويخصها بالذكر ضمن أركان البيعة. فعن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني عوف بن مالك قال: " كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: "ألا تبايعون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "؟ ولنا حديث عهد ببيعة. قلنا: قد بايعناك! حتى قالها ثلاثًا، وبسطنا أيدينا فبايعنا، فقال قائل: يا رسول الله، إنا قد بايعناك فعلام نبايعك؟ قال: "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا"، وأسرَّ كلمة خفية، قال: "ولا تسألوا الناس شيئًا" قال راوي الحديث: "فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه، فما يسأل أحدًا أن يناوله إياه" (رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة ).
وهكذا نفذ هؤلاء الأصحاب الميامين مضمون هذه البيعة النبوية تنفيذًا "حرفيًا" فلم يسألوا أحدًا حتى فيما لا يرزأ مالاً، ولا يكلف جهدًا، ورضي الله عن الصحابة، فإنهم ما انتصروا على الناس إلا بعد أن انتصروا على أنفسهم، وألزموها صراط دينهم المستقيم.
نسال الله الهداية للجميع.
منقول بتصرف .